يستغلون مصيبة الزلزال كما استغلها الإمبراطور البيزنطي قبل ألف عام!
في عام 2006 طلَّت علينا الصحيفة أو فلنصفها صفيحة القمامة الفرنسية المسمّاة “شارلي إيبدو”، ترسمُ نبينا- صلى الله عليه وسلم- في صورة مسيئة، حيث وضعت في مكان العمامة قنابل، تصفه في صورة فجة قميئة بالإرهابي والقاتل، وقد جرّ هذا الرسم المسيء استهجاناً واسعاً من العالم الإسلامي شعوباً وحكومات، حتى تعرضت الجريدة للحرق والهجوم المسلح ومقتل بعض منتسبيها في عام 2015م.
وفي الزلزال الأخير الذي تعرضت له 10 محافظات في جنوبي تركيا ومناطق واسعة بالشمال الغربي من سوريا، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 26 ألف شخص، وجرح عشرات الآلاف فضلاً عن التأثير المباشر على قرابة 20 مليون إنسان في هذه المناطق، فإن هذه المجلة الإجرامية بدلاً من التعاطف والوقوف أمام هذا المصاب الجلل الذي وصفته هيئة الكوارث التركية بأن قوته تعادل 500 قنبلة ذرية، فحجم الكارثة كبير، والخسائر في الأنفس والأموال فادحة، بدلاً من التعاطف قامت هذه الجريدة برسم المباني المتهدّمة وكتبت تقول في سخرية وحقارة: “لا داعي لإرسال الدبابات”!
مصيبة الزلزال
إن هذا السلوك العنصري والإجرامي الموجّه ضد الإسلام والمسلمين، والذي يستدعي الدبابة والطائرة وآلات القتل والفتك في التعامل معنا نحن المسلمين، هو لُب فكرة العنصرية واليمينية المتطرفة التي تمثّلها هذه الصحيفة التي تتلقى اليوم دعماً كبيراً من التيار اليميني العنصري المتصاعد في الغرب. إن جل ما يريدونه أن نكون ضعفاء منكسرين تابعين أذلاء دائماً، ثم يستغلون حالة الضعف التي نمر بها لتحقيق مشاريعهم المتطرفة بالقضاء على المسلمين والإسلام، ولنا في التاريخ حوادث مشابهة، للغرابة الشديدة، لا سيما في أوقات الزلازل المهلكة.
لقد وقع في بلاد الشام وجنوبي تركيا عشرات الزلازل في التاريخ الإسلامي منذ عصر الفتوحات الإسلامية في القرن الأول من الهجرة وحتى يومنا هذا، وقد لاحظنا أن بعض هذه الزلازل المدمرة مثل زلزال عام 460هـ/1068م قد استغلها بعض أعداء المسلمين لتحقيق مآربهم، في ظل انشغال المسلمين وضعفهم سط هذه الكارثة الكبرى، ومن هؤلاء الأعداء أباطرة الدولة الرومانية البيزنطية التي كانت تحكم مناطق تركيا وشرق أوروبا، وكانت الحدود الفاصلة بين المسلمين والبيزنطيين هي المناطق التي وقع فيها الزلزال الأخير في ملاطية وغازي عنتاب وأضنة وآدي يامان ومناطق شمالي سوريا مثل حلب واللاذقية وغيرهما.
يروي ابن القلانسي في “تاريخ دمشق” قائلاً: “وفي يوم الثلاثاء، العاشر من جمادى الأولى من السنة، جاءت زلزلة عظيمة بفلسطين هدمت أكثر دور الرملة وسورها وتضعضع جامعها، ومات أكثر أهلها تحت الردم. وحكي أن مُعلّماً كان في مكتبه به تقدير مئتي صبي، وقع المكتبُ عليهم فما سأل أحد عنهم لهلاك أهليهم، وأن الماء طلع من أفواه الآبار لعظم الزلزلة، وهلك في بانياس تحت الردم نحو من مئة نفس وكذلك في بيت المقدس”.
كما يروي سبط ابن الجوزي في “مرآة الزمان”، نقلاً عن بعض التجار، أثر هذا الزلزال الضخم على الأوضاع الأمنية في بلاد الشام، وامتداد هذا الزلزال على كامل المنطقة الممتدة من جنوبي تركيا (الجزيرة الفراتية) وبلاد الشام وحتى الجزيرة العربية والحجاز جنوباً، قائلاً: “ورد مِن بعض التجار كتابٌ في رجب يقول: وصلنا إلى دمشق وليس فيها سلطانٌ ولا بَيعٌ ولا شراء، وقد غلب أهلُها عليها، ولا يمكن أحدٌ الخروج منها ولا الدخول إليها… وجميعُ الساحل والشام محيط، والعجب أنهم اعتبروا حال هذه الزلزلة، فوجدوا السواحل والقدس والشام والمدينة وتبوك وتيماء والحجاز كلَّه والبلادَ الفراتية الجميع زُلزلت في ليلة واحدة”.
ويبدو أن حجم الكارثة والهدم وانشغال الناس بأنفسهم كان كبيراً، ولهذا السبب قرر الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجنيس أن يستغل انشغال المسلمين بأنفسهم ويهجم على بلاد الشام، وفي هذا يقول المؤرخ ابن الجوزي في “المنتظم في تاريخ الأمم”، إن الإمبراطور “ملك الروم (خرج) من قسطنطينية إلى الشام في ثلاثمئة ألف، ونزل على منبج ستة عشر يوماً، وسار إليه المسلمون، فانهزم المسلمون وقتل جماعة منهم، وأحرق ما بين بلد الروم ومنبج من الضياع والقرى، وقتل رجالهم، وسبى نساءهم، وخاف أهل حلب خوفاً شديداً”.
بينما يمدّنا حفيده يوسف بن قِز أوغلي الشهير بسبط ابن الجوزي في “مرآة الزمان” برواية تفصيلية عن هجوم البيزنطيين على مناطق جنوبي تركيا وشمالي سوريا، قائلاً: “وفي المُحرَّم وصلَ ملك الروم إلى بلد حلب في مئين ألوف.. وانهزم المسلمون، وفتحت الروم حصني عِمّ وأَرْتَاح (قريباً من حلب)، وكان الغُزُّ (الأتراك) و(العرب) بنو كلاب قد فتحوهما قبل ذلك، وانبسطَ الروم إلى مِنبج (جنوبي تركيا اليوم)، وكان أكثرُ أهلها قد هربوا منهاظ.. فقتلوا مَنْ لم يستأمِنْ إليهم من المسلمين، ونقضوا من سورها ما بنوا بحجارته حصناً كان قديماً فيها، ورتبوا أصحابهم في الحُصين وجعلوه معقلاً لهم، وفرَّقوا في المستأمَنة مالاً كبيراً عوضاً عما ذهب منهم، وأحسنوا إليه، وأفاضوا العدل فيه تقوياً بهم على حفظ البلد، ووقع الغلاءُ في عسكر الروم لكثرتهم وقِلَّة ميرتهم، لما توالى عليهم من إحراق التركمان بلادهم ونهبها، وزاد الغلاء”، وقد اضطر الإمبراطور البيزنطي في النهاية إلى أن يعود إلى القسطنطينية (إسطنبول) بسبب هذا الغلاء وقلة المؤن والغذاء، ولولا ذلك لانقضّ على كامل بلاد الشام بالكامل قتلاً وأسراً وربما احتلها جميعاً.
ولعل انقضاض وهجوم العدو البيزنطي المسيحي على المسلمين وقت مصابهم وانشغالهم بإعادة عُمران مُدنهم، كان سبباً في تيقظ السلطان الزنكي الشهير نور الدين محمود، حين وقع زلزال بالقرن التالي في عام 552هـ/1158م، وهو زلزال ضخم دمر كثيراً من مُدن الشام، في أثناء الصراع الإسلامي الصليبي؛ خوفاً من استغلال الصليبيين الذين كانوا يحتلون مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً وحتى غزة وعسقلان وكل فلسطين جنوباً.
ولهذا نرى ابن الأثير في كتابه “الباهر في الدولة الأتابكية” ينتبه إلى هذه الواقعة ودور نور الدين المؤثر فيها، قائلاً: “في سنة اثنتين وخمسين وخمسمئة كان بالشام زلزلة شديدة ذات رَجفات عظيمة متتابعة، أخرَبت البلاد وأهلكت العباد، وكان أشدّها بحماة وحصن شيزر فإنهما خرّبتا بمرّة، وكذلك ما جاورهما كحصن بارين والمعرّة وغيرهما من البلاد والقرايا، وهلك تحت الهدم من الخلق ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتهدّمت الأسوار والدور والقلاع، ولولا أن الله مَنَّ على المسلمين بنور الدين؛ جمع العساكر، وحفظ البلاد، وإلا كان دخلها الفرنج بغير قتال”.
لقد كان زلزال عام 552، مهلكاً ومدمراً وكارثة كبرى من الكوارث التي ضربت بلاد الشام وجنوبي تركيا، ونحن نلاحظ تكرر هذه الكوارث منذ أقدم العصور وحتى يومنا في هذه تلك المناطق، بسبب احتكاك الصفيحة العربية التكتونية بالصفيحة الأناضولية في منطقة الفالق الشرقي الأناضولي القادم من أقصى شرقي تركيا حتى وسطها ثم إلى الجنوب باتجاه الشام وحتى البحر الأحمر، ونلاحظ أيضاً أنه لا يمر قرن إلا وتضرب هذه المناطق ما لا يقل عن 6 إلى 8 زلازل، بعضها يكون مهلكاً ومدمراً مثل زلزال عام 552هـ في زمن نور الدين محمود.
ولكن ما يهمنا في هذه الزلازل هو رد فعل العالم الغربي تجاه مصاب المسلمين، فقد استغل الإمبراطور البيزنطي زلزال عام 460هـ/1068م وهاجم مدن جنوبي تركيا وشمالي سوريا وقتل من المسلمين ما لا نعلمهم، وقد أخذ نور الدين درساً من هذه الحادثة فاتجه بقواته صوب الحدود الإسلامية الصليبية وعمل على إعادة الإعمار سريعاً؛ حتى يحفظ المدن الإسلامية من شر الصليبيين وخيانتهم المتواصلة.
ولعل استهزاء “شارلي إيبدو” بمصاب المسلمين بتركيا وسوريا في هذه الكارثة الكبرى نزعة من تلك النزعات الصليبية القديمة التي رأيناها عند أجدادهم الصليبيين والبيزنطيين، بل إن رد الفعل الإعلامي الغربي الضعيف الذي يهتم بحرب أوكرانيا أكثر مما يهتم بمأساة زلزال تركيا وسوريا، واضح حتى لبعض كُتاب الغرب أنفسهم، حتى إن الصحفي والكاتب البريطاني ديفيد هيرست قد عبّر عن دهشته واستنكاره تقديم بلاده 6 ملايين دولار لإغاثة 23 مليون شخص ضربهم الزلزال، مقابل 2.3 مليار دولار قيمة أسلحة قدمتها بريطانيا لاستخدامها في حرب أوكرانيا!
بقلم: محمد شعبان أيوب