“مدن الـ15 دقيقة”.. كيف يتصاعد التخطيط لها في العديد من المدن الكبرى حول العالم؟
يعني العيش في المدن الكبرى بالنسبة لكثيرين، مواجهة حركة المرور القاتلة ومترو الأنفاق المكتظ بالركاب، والمباني المهيبة الممتدة في هذه الدوامة العمرانية. لكن التخطيط العمراني ذا الشعبية المتزايدة المعروف بـ “مدن الـ15 دقيقة”.
أحيا الفكرة الملزمة التي تقول إن عليهم ضمن نطاق مدينة يستطيع كل سكانها الوصول إلى الموارد الضرورية سيراً على أقدامهم، أو باستخدام الدراجات أو المواصلات العامة، خلال ربع ساعة. فما هي مدن الـ15 دقيقة؟ وكيف يمكنها حل مشاكل ملايين البشر حول العالم وصد التغير المناخي؟
ما هي مدن الـ15 دقيقة وكيف ستغير شكل المدن الكبرى؟
أصبح مفهوم مدن الـ15 دقيقة آخذاً في الانتشار بوتيرة كبيرة خلال السنوات الأخيرة، وهو مفهوم يحث على إعادة تشكيل رؤية تخطيط المدن لتحويلها إلى نماذج مرنة يستطيع سكانها الوصول لغايتهم خلال وقت قصير. ويركز هذا المفهوم أيضاً على أهمية بناء كيانات عمرانية تتوافر فيها جميع المرافق المجتمعية، لا سيما أماكن العمل والسكن والترفيه والتسوق التي تتصل بعضها ببعض، بكفاءة، عبر مسارات للمشاة، بحيث لا يستغرق الوصول إلى الوجهة المستهدفة أكثر من 15 دقيقة، سيراً على الأقدام.
وأيَّد مسؤولو المدن والمخططون العمرانيون فكرة “مدن الـ15 دقيقة” بوصفها طريقة للتصدي للتغير المناخي، في وقتٍ سلطت فيه الجائحة الضوء على فوائد القرب من المرافق، والشوارع الملائمة للسير، وأثارت “موجة من زيادة الاهتمام” بالمبدأ، وذلك وفقاً لزهير علام، المخطط الاستراتيجي والباحث لدى جامعة ديكن الأسترالية. لكن البعض جعل منها أيضاً موضوع ادعاءات لا أساس لها حول محاولات الحكومات للسيطرة على الحركة والتنقل.
ويقول توم لوغان، المحاضر في قسم هندسة الموارد الطبيعية والمدنية لدى جامعة كانتربري، إن مدن الـ15 دقيقة تتعلق بالمرونة، لا بالقيود. وأوضح في حديثه مع صحيفة The Washington Post الأمريكية: “المسألة برمتها تتعلق بمنح الناس الخيار ليكونوا قادرين على السير وركوب الدراجات، وصولاً إلى الأشياء التي يحتاجون إليها، مما يمنحهم الحرية للاضطلاع بالكثير من الأمور الأخرى”.
من أين أتى مفهوم مدن الـ15 دقيقة؟
في رسالة بريدٍ إلكترونيٍ، كتب كارلوس مورينو، اختصاصي التخطيط الحضري والأستاذ لدى جامعة السوربون في باريس، الذي يُعزى إليه الفضل في نحت المصطلح عام 2016، إن هذا المفهوم يجعل “البشر ورفاههم الغرض الرئيسي من التنظيم المدني”. وأوضح أن الفكرة تتعلق بـ”تعزيز الاستدامة والصحة عن طريق خفض الاعتمادية على السيارات وزيادة الاعتمادية على النشاط البدني”.
جعلت عمدة باريس “آن هيدالغو” هذا المبدأ أساساً اعتمدت عليه الحملة الناجحة لإعادة انتخابها في 2020. كذلك وُظفت في عدد من أشكال المدن، مثل مشروع مدينة الـ30 دقيقة في سيدني، ورؤية سنغافورة لتصير “مدينة الـ45 دقيقة، ذات أحياء الـ20 دقيقة”.
صحيحٌ أن المصطلح جديدٌ نسبياً، لكن الفكرة الكامنة وراءه ليست كذلك. في رسالة بريدٍ إلكتروني، كتبت جورجيا بوزوكيدو، أستاذة تخطيط المدن لدى جامعة أرسطو في سالونيك، إن مدن الـ15 دقيقة “تعتمد بكثافة على السمات التي استخدمت بوصفها تصميمات رائدة في الماضي، وهي على وجه التحديد القابلية للوصول، والقابلية للمشي، والكثافة، ومزيد من استخدام الأراضي، وتنوع التصميم”.
وتضرب جورجيا بإشارتها في جذور ماضي التخطيط العمراني، وصولاً إلى “المدن الحدائق” التي اقترحها المخطط الحضري البريطاني إبنيزر هوارد في كتاب يعود إلى عام 1898، بوصفه مثالاً على جذور المبدأ. كذلك يحمل هذا المبدأ في طياته روح حركة “الحضرية الجديدة”، التي شاعت في تسعينيات القرن الماضي، وجعلت القابلية للمشي أولوية في تخطيط الأحياء.
أوضحت جورجيا أن مدينة الـ15 دقيقة الحديثة تعتمد على مشاركة المواطن وتتصور الأماكن التي “تعزز التفاعل المجتمعي وتزرع شعوراً بالمجتمع والأمان والفخر والهوية”.
أين يمكنني العثور على إحدى هذه المدن؟
تبنت عشرات المدن حول العالم بصفة رسمية وغير رسمية عناصر مدن الـ15 دقيقة، وإن كانت القواعد التي تتبعها في هذه النماذج غير صارمة. قال علام، باحث جامعة ديكن الأسترالية: “يجب أن يُنظر إلى المبدأ بوصفه مجموعة من القواعد الإرشادية، التي يمكن للمدن أن تتكيف معها وتطبقها تماشياً مع احتياجاتها المحددة وتحدياتها”.
تضرب باريس أحد الأمثلة الأكثر استشهاداً بها. شهد نهج ville du quart d’heure -أو مدينة ربع الساعة- الذي اتبعته آن عمدة باريس، إغلاق الطرق أمام المركبات لإعطاء أولوية إلى المشاة، والاستثمار في المواصلات العامة، وتحسين الحارات المخصصة للدراجات وتحسين برامج مشاركة الدراجات، في إطار جهود خلق مجتمعات مكتفية ذاتياً داخل دوائر المدينة.
وفي برشلونة، ثمة مبدأ مشابه يسمى “المربعات السكنية الكبيرة” انطلق هناك، وفي الوقت ذاته تملك العاصمة الدنماركية كوبنهاجن حياً سكنياً يسمى نوردهافنن، يطمح إلى أن يصير مدينة الـ5 دقائق.
كانت مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأمريكية واحدة من أولى المدن التي تبنت الفكرة. في عام 2009، وضعت خطة العمل المناخية الخاصة بالمدينة هدفاً يرمي إلى جعل 90% من سكان المدينة قادرين على السير أو ركوب الدراجات للوصول إلى احتياجاتهم غير المتعلقة بالعمل، وذلك بحلول عام 2030.
أما خطة Plan Melbourne، الخاصة بمدينة ملبورن الأسترالية، التي انطلقت في 2017، فإنها تستهدف إعادة تصور المدينة على مدى العقود الثلاث القادمة من أجل أن يتمكن السكان من “العيش محلياً” والوصول إلى ما يحتاجون إليه في رحلة لا تتجاوز 20 دقيقة. كذلك بدأت شنغهاي في مبدأ مشابه يسمى “دوائر المعيشة المجتمعية ذات الـ 15 دقيقة”.
ما الذي يقوله الخبراء عن مدن الـ15 دقيقة وأهميتها؟
يقول الخبراء المناصرون للمبدأ إنه يفيد كلاً من الصحة العامة والكوكب. بحسب هؤلاء، فإنه من خلال خفض الحاجة إلى السيارات وتجميع الموارد في مساحات حضرية أكثر تراصاً، تقل الانبعاثات الكربونية في مدن الـ15 دقيقة، ويشجّع هذا على النشاط البدني ويعزز المشاركة المجتمعية بين أعضاء المجتمع.
قال لوغان، المحاضر لدى جامعة كانتربري، إن هناك “كمية كبيرة من الأدلة التي تشير إلى أن القيادة والجلوس في الازدحام تحملان أثراً سلبياً حقيقياً على الصحة الجسدية”. ويوضح أن تقليل الأوقات المستغرقة في المواصلات يعني “أنك تستطيع قضاء ذلك الوقت في الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أو التواصل مع الأصدقاء، أو العمل على الأمور الأخرى”.
وأضاف أن تطوير المساحات العامة يحمل كذلك أثراً فريداً على الأطفال، الذين يحوزون تجارب ثرية أثناء السير إلى المدرسة، وكبار السن الذين يبقون في الغالب منعزلين في المدن التي تتركز حول السيارات.
لماذا لا يحب البعض هذا المبدأ؟
يجادل بعض النقاد بأن مدن الـ 15 دقيقة، ربما تكون خانقة وتزيد من العزلة في واقع الأمر. في مدونة تعود إلى عام 2021 نُشرت في موقع كلية لندن للاقتصاد، وصف إدوارد جلايزر، أستاذ الاقتصاد الحضري في جامعة هارفارد، مدن الـ 15 دقيقة بأنها “جيب – غيتو – تقسيم فرعي”.
يجادل جلايزر بأن المبدأ يمنع المدن من أن تعمل بوصفها “محركات فرص”، ويحرم الأشخاص من الخلفيات الثقافية المختلفة من عبور المسارات. وكتب في المدونة إن “جوانبها الجيدة” يجب تبنيها، التي تتضمن القدرة على الوصول وتقليل قيادة السيارات، لكنها “تدفن فكرة المدينة، التي تُفرم إلى قطع الـ 15 دقيقة”.
لماذا يحتج أنصار نظريات المؤامرة على مدن الـ 15 دقيقة؟
أدى خفض الانبعاثات الكربونية خلال الجائحة -الذي يُعزى جزئياً إلى الإغلاقات واختيار الأشخاص قضاء أوقات أطول في البيت- إلى تزايد النقاشات حول بذل جهود أكبر للتصدي لأزمة المناخ، ويأتي من بينها مبادرة المنتدى الاقتصادي العالمي المسماة “إعادة الضبط الكبرى”. أثارت تلك المبادرة اتهامات لا أساس لها حول الفرض الوشيك لإغلاقات على شاكلة ما شهدناه خلال الجائحة بهدف وقف التغير المناخي، وتورَّط مبدأ مدن الـ 15 دقيقة في هذه التكهنات، وهو ما يؤكد خبراء التخطيط الحضري والمسؤولون الحكوميون على أنه غير صحيح.
عندما أعلن مجلس مدينة أوكسفورد في إنجلترا في العام الماضي أنه سوف يتخذ تدابير لتقليل الازدحام المروري، حاول مروجو المعلومات المضللة الربط بين جهود خطة المجلس المنفصلة المتعلقة بمدن الـ 15 دقيقة، وبين الادعاء الخاطئ بأن السكان سوف يجري تقييد حركتهم في نطاق دائرة لا تتجاوز 15 دقيقة من منازلهم بجانب مراقبتهم، مما أدى اندلاع احتجاجات في المدينة. أثار أحد المشرعين المحافظين المسألة في البرلمان البريطاني، ووصف مدن الـ 15 دقيقة، بأنها “مبدأ اشتراكي دولي”.
أكد مورينو، أستاذ جامعة السوربون، على أن القادة في المشهد السياسي، من العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس وصولاً إلى مدينة بوسان في كوريا الجنوبية، روجواً لفكرة مدن الـ 15 دقيقة.
وأوضح في رسالة البريد الإلكتروني التي أرسلها إلى صحيفة The Washington Post: “لا يتعلق الأمر بمنع التحرك، بل يتعلق بمنح الجميع خيار الحركة. إنه يتعلق بإيقاف الرحلات الطويلة والمرهقة التي يفرضها النموذج الحضري الحالي”.
المصدر: ترند 10 + وكالات