# هاشتاق

“مختلفة تماما”.. أكثر من 200 يوم على حرب غزة! كيف يشاهدها الإسرائيليون؟

حرب غزة

لؤي حمدان / مُحرر ومُعد تقارير
بعد مرور أكثر من 200 يوم على حرب الإبادة الإسرائيليّة على غزّة، لا يبدو أنّ الاحتلال حقق الأهدافَ التي أعلن عنها مع انطلاقه في هذا العدوان. كانت الفرضية التي رافقت الاحتلال منذ البداية تقضي أنّ جميع العمليات الهمجيّة الوحشية في ساحة المعركة يجب أن تخدم الاستراتيجية التي ستؤدي لهزيمة العدو، وهذا هو المقياس الوحيد الذي من خلاله يفحصون الخطط الخاصّة بشعبة التخطيط والعمليات داخل هيئة أركان الجيش، مروراً بأجهزة الأمن والاستخبارات.

وتكشف جولة سريعة على أهم ما كتبته الصحف ومراكز الأبحاث الإسرائيلية في هذه الأيام، انشغالَ الإسرائيليين برصد مؤشرات التراجع التدريجيّ اللافت في تحقيق أهداف الحرب على غزّة. ويُدرجون ضمن هذه المؤشرات: الاستمرار في إنفاق مليارات الشواكل يومياً، وظهور موجات عالميّة من معاداة الاحتلال، وخسارة الدعم الدوليّ، وظهور تصدّعات في الرأي العام الأميركي، وتعطّل اتفاقات التطبيع، والإضرار بمكانة “إسرائيل” السياسيّة، والردع الإقليمي، إضافةً إلى التوتر الذي يعيش فيه المستوطنون طيلة هذه الفترة.

وتقدّر هذه الكتابات أنّه إذا انتهت حرب غزّة بهذه المعطيات، فإنّها ستصبح بأثرٍ رجعيّ ذات نتائج كارثية على الاحتلال، لأنها خلقت واقعاً جديداً يشكّل بالفعل حافزاً لكل القوى المعادية له في المنطقة، والنتيجة أنه سيكون أمام أضرار استراتيجية تتجاوز ما يمكن وصفها بأنها إنجازات تكتيكية، تعبّد الطريق أمام خلق مزيدٍ من أدوات الضغط السياسية عليه.

وفيما يتعلق بهدف “هزيمة العدو”، فإنّ التخوف الإسرائيلي أنّ مائتي يوم وأكثر من الإبادة لم تقضِ كليّاً على قدرات “حماس”، ليس العسكريّة فقط، لكن أيضاً قدراتها المدنيّة الحكوميّة، وبالتالي فإنها ستكون قادرة نسبيّاً على إعادة تأهيل ما دُمّر. وتستشهد هذه التخوفات بما حصل خلال الهدنة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، إذ أعادت الحركة خلالها حركة الأنفاق في مناطق معينة، مما يعني أن هذا سيحدث كذلك إذا أُبرمت هدنة جديدة، أو توقفت الحرب كليّاً، وربما بعد عقد من الزمان سيواجه الاحتلال مرةً أخرى آلاف الكيلومترات من الأنفاق القتاليّة. تشير هذه الخلاصة إلى أنّ ما يخوضه جيش الاحتلال اليوم من خطط عملياتيّة خشنة لن تؤدي بالضرورة إلى الهدف المرجو.

تبقى الخطورة الماثلة أمام دولة الاحتلال أنَّ حربَ الإبادة هذه قد تستغرق عدة أشهر، وربما يغرقون أكثر فأكثر في وحل غزّة، وهذا ما يزيد من الدعوات الإسرائيلية لتغيير الاتجاه من التكتيك إلى الاستراتيجية، ومن نمط جولات القتال الأولى والثانية والثالثة والرابعة إلى استئناف الحرب الشعواء بذات الجنون الذي بدؤوا فيه منذ اليوم الأوّل، ومن الخلط والإرباك الذي يصاحب المستويات السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة لدى الاحتلال، وتضارب تصريحاته وتناقضها، وتبادل الاتهامات وعلانيتها، إلى القرار والنصر الذي طال أمده، رغم مزاعم نتنياهو عن “النصر المطلق” الذي يبدو شعاراً بروباغندياً أكثر من كونه قابلاً للتطبيق.

تزامن مرور مائتي يوم على اندلاع الحرب مع إعلان جيش الاحتلال بأن مرحلتها الحالية، الموصوفة بالمرحلة “الثقيلة” من الهجوم الذي تقوم به قوات كبيرة، لن تؤدي لِمَا أخفقت فيه المرحلتان الأولى والثانية من الحرب، مما دفع لصدور أصوات خجولة تطالب بالتحوّل إلى حدّةٍ أقلّ في القتال، بدعوى أن “حماس” لن يتم حسم المعركة معها إلا في إطار حرب استنزاف. ويذكر أنّ جيش الاحتلال يشهد تغيراً مستمراً في مصطلحاته المستخدمة، فقد تحدثوا أولاً عن “السيطرة الأمنية”، ثم عن “حرية العمليات”، والآن أصبح المفهوم “توازن القوى” مروراً بـ”النصر المطلق”.

كما أنّهم أعلنوا في البداية عن هدف تدمير القدرات العسكريّة والحكوميّة لـ”حماس”، لكن الأسابيع والأشهر التالية للحرب شهدت انخفاضاً في التوقعات، وإعادةً لتعريف هذه الأهداف، وصولاً لمصطلح بات يستخدم في الأروقة العملياتية عنوانه “ردع الحركة” بقوّة لسنوات عديدة، بهدف عدم تكرار تهديد السابع من أكتوبر، لا تدميرها والقضاء عليها.

كما بدأنا نسمع عن أهدافٍ إسرائيليّة وسيطة أخرى، من قبيل “السماح لمستوطني غلاف غزّة بالعودة لمنازلهم بأمان”، من خلال تعزيز الجدران والتحصينات والأنظمة التكنولوجية، وتعزيز المنطقة الأمنية العازلة بعرض كيلومتر واحد غرب السياج على طول عشرات الكيلومترات مع قطاع غزّة، واستمرار النشاط في الغارات المستهدفة في الأشهر المقبلة، عقب انسحاب متوقع من معظم المناطق التي يتواجد فيها جيش الاحتلال حالياً، والانتقال إلى محيط موسع داخل القطاع.

اليوم، وبعد مرور هذه الأشهر الطويلة على الحرب، ومزاعم الاحتلال التي تحدثت عن ضرورة إيقاع الهزيمة بـ”حماس”، والمضي قدماً بتفكيكها بشكل منهجي وتدريجي، وتصفية كبار قادتها، لكن جيش الاحتلال لا يزال يعاني، والخسائر على الأرض تترى، وبالصور الموثقة.

ورغم مزاعم جيش الاحتلال عن سيطرته على مدينة غزّة وشمال القطاع وخانيونس، فلا يزال هناك آلاف المقاتلين، وتكتشف مستودعات الذخيرة في كل مبنى تقريباً. وفي هذه الأثناء تواصل “حماس” بسط نفوذها على هذه المناطق، صحيح أن الاحتلال يواصل الادعاء أنه قتل ما يزيد عن عشرة آلاف مقاتل من الحركة، لكن القناعة السائدة أنه حتى لو كان ذلك صحيحاً فإنّه لن يمنعها من تجنيد المزيد من المقاتلين الجدد، وإعادة تأهيلهم بسرعة، في ضوء ما أنشأته “حماس” من بنية تحتية واسعة ومتطورة في غزة، تضررت لكنها لم تباد، ويتم إمدادها طوال الوقت، وفق ما تسمح به الظروف.

كل ذلك يؤكد أنّ الاحتلال أخطأ في مواءمة خطة العمليات مع أهداف الحرب المعلنة، مما يعني أنه من أجل تنفيذ خطة القضاء على “حماس” كما دأب على الإعلان قادة الاحتلال من سياسيين وعسكريين، فإن التقدير السائد أنّ الأمر بحاجة إلى خطة عملياتية مختلفة، وليس عمليات جراحية لا نهاية لها، وتغييرات ميدانية متزامنة مع تغيير الأهداف بسرعة، بزعم حاجة الاحتلال الوجودية لتدمير “حماس”، حتى لو لم يحدث ذلك في الجولة الحالية، فإن التحدي لن يختفي، بل سيدخل الاحتلال ذات النفق المرة القادمة.

لم تتوقف الأضرار الاسرائيلية للحرب على الجوانب السياسية والعسكرية الواردة أعلاه، بل امتدت الى الاقتصاد، عصب الدولة، فقد أدت لتزايد الضائقة المعيشية، وتفاقم الفقر بين الإسرائيليين، وتسريح العديد من العمال، والتسبب بزيادة حادة في حجم الفقر والضائقة الاقتصادية والاجتماعية.

وبحسب بيانات “الجهاز المركزي الإسرائيلي للإحصاء”، فقد انخفض نصيب الإسرائيلي من الناتج المحلي في الربع الرابع من عام 2023 بنسبة 20.7% على أساس سنوي، وانخفض منتج الأعمال في نفس الربع بنسبة 32.2%، والاستهلاك الخاص بنسبة 27%، وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023 بأكمله بنسبة 0.1%، بما يعكس تدني مستوى المعيشة، وحجم الفوارق الاجتماعية. ورغم عدم نشر أرقام النمو للربع الأول من 2024 بعد، لكن التوقعات أن تكون أكثر قتامة، ومستوى المعيشة لن يعود قريباً لمستوى ما قبل الحرب.

بلغة الأرقام، فقد في بداية الحرب قرابة 400 ألف إسرائيلي وظائفهم، وأعلن عن تأجيل إعانات البطالة، وبلغ عدد من توقفوا عن العمل خلال الحرب 350 ألفاً بسبب استدعائهم للاحتياط، العديد منهم في مجال التكنولوجيا الفائقة والصناعة، وآخرون في وظائف غير مستقرة في شركات تجارية صغيرة، تضررت بشدة في الحرب، عندما توقف الإسرائيليون المصابون بالصدمة عن قضاء الوقت والتسوق.

فيما فرّ 200 ألف إسرائيلي آخرون من منازلهم، يحصلون على رواتبهم حتى لو لم يعملوا، وتتولى منظمات الإغاثة توفير احتياجاتهم الأساسية في الفنادق والشقق التي يقيمون فيها. ورغم عودة بعضهم لمنازلهم، لكن العيش على حقائب السفر لمن عانوا من أهوال يسبب مشاكل نفسية واجتماعية خطيرة، كما انخفضت في الأشهر الأخيرة كمية التبرعات.

تجدر الإشارة إلى أنه في بداية الحرب، كانت هناك تعبئة واسعة النطاق في المجتمع الإسرائيلي لصالح النازحين والجنود، وتلقوا تبرعات ضخمة من المعدات والأغذية والمال، وحتى الشقق، وسجلت المنظمات الإغاثية للمحتاجين ارتفاعاً بحجم التبرعات، لكنها انخفضت في الأشهر الأخيرة، مما أضرّ بالنازحين والفقراء “العاديين” ممن بحاجة للمساعدات في مرحلة ما قبل الحرب، ويحتاجون إليها أكثر اليوم، في وقت لم يزد فيه الدعم الحكومي للفئات الأضعف على الإطلاق.

تتحدث المعطيات الإحصائية الإسرائيلية أن هناك 330 ألف أسرة تعاني من انعدام الأمن الغذائي في ظل الحرب، ورغم اندلاع الحرب، فلم تتم زيادة ميزانية الرعاية الاجتماعية، فيما جمعت الاتحادات اليهودية في الولايات المتحدة 2.5 مليار دولار للمنظمات الاجتماعية في “إسرائيل”. وهناك المزيد من الاضطراب العقلي والانسحاب والعزلة وتعاطي المخدرات والكحول، ومظاهر الضيق وعدم اليقين، وانقطاع الروتين، وتهديد السلامة الشخصية، مما أسفر عن مزيد من التدهور الاجتماعي الذي خلقته الحرب.

في المقابل تمثلت الخلاصة الاقتصادية الإسرائيلية بعبارة مفادها أنه “إذا استمرت حرب غزة، فلا خيار سوى زيادة الضرائب على الإسرائيليين” لتمويل نفقات الحرب، فضلاً عن تفاقم موجة إلغاء الرحلات الجوية لـ”إسرائيل”، عقب إعلان المزيد من شركات الطيران العالمية تعليق رحلاتها الجوية، وتأكيد بعضها أنها لن تعود للعمل في الأشهر المقبلة.

فيما توقعت مؤسسة “ستاندرد آند بورز” الدولية أن يرتفع العجز الحكومي الإسرائيلي إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، ويرجع ذلك أساساً إلى زيادة الإنفاق العسكري، فيما كشف التآكل المستمر للاقتصاد الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عن انهيار الادعاء بأنه محصن ضد آثار الحروب، في ظل زيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض الواردات والصادرات، وإغلاق المصانع، وانهيار قطاع السياحة داخلياً وخارجياً.