سباق الطاقة النووية في زمن تغير المناخ.. أمريكا تتراجع والصين وروسيا في الصدارة
بعد أن كانت أمريكا تنفرد بالمقدمة في إنتاج الطاقة النووية النظيفة، باتت الصين تسبقها ب15 عاما، بينما تزداد حصة روسيا في السوق العالمي للمفاعلات، فماذا حدث خلال العقدين الأخيرين؟
فالمنافسة العالمية بين الغرب بقيادة أمريكا من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، تتخذ العالم أشكالاً متعددة، ومن ضمنها مجال الطاقة. وعلى مدى عقود، كانت صناعة الطاقة النووية ساحة معركة في إطار هذه المنافسة.
في عام 1990، كانت صناعة الطاقة النووية الأمريكية في صدارة العالم بلا منازعم، وبلغت ذروتها عندما بلغ عدد المفاعلات العاملة فيها 112 مفاعلاً. وكانت الولايات المتحدة على الطريق إلى الحياد الكربوني، لكن بعد مرور 34 عاماً، فقدت أمريكا ما يقرب من ثلث مفاعلاتها النووية العاملة، ولم تقم ببناء أي مفاعلات جديدة تقريباً، ويبلغ متوسط عمر مفاعلها عشرات السنين، فماذا عن الصين وروسيا؟
الصين تسبق أمريكا في الطاقة النووية
أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، وهي معهد أبحاث مقره واشنطن، أن الصين لديها حاليا 27 مفاعلا نوويا قيد الإنشاء بمتوسط زمني للبناء يبلغ نحو سبع سنوات، وهو أسرع بكثير من الدول الأخرى.
التقرير الذي نشر، الاثنين 17 يونيو/ حزيران، ذكر أن الولايات المتحدة متخلفة عن الصين بما يصل إلى 15 عاما في تطوير الطاقة النووية عالية التقنية إذ تتفوق بكين بفضل النهج التقني المدعوم من الدولة فضلا عن التمويل المكثف، بحسب رويترز.
وجاء في التقرير الخاص بالدراسة أن “نشر الصين السريع لمحطات الطاقة النووية الأكثر حداثة من أي وقت مضى ينتج عنه مع الوقت تأثيرات اقتصاديات الحجم والتعلم بالممارسة، وهو ما يشير إلى أن الشركات الصينية ستكتسب ميزة من الابتكار المتزايد في هذا القطاع من الآن فصاعدا”.
وتستطيع البنوك المملوكة للدولة في الصين أن تقدم قروضا بفائدة منخفضة تصل إلى 1.4 بالمئة، وهي نسبة تقل كثيرا عن الاقتصادات الغربية.
وبدأ تشغيل أول مفاعل في العالم مرتفع الحرارة مبرد بالغاز من الجيل الرابع في خليج شيداو بالصين في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وتقول جمعية الطاقة النووية الصينية إن المشروع قائم على مواد منتجة محليا بنسبة 93.4 بالمئة.
روسيا وتصدير المفاعلات النووية
أما روسيا، الخصم الآخر للغرب بقيادة أمريكا، فقد توسعت بشكل لافت في تصدير المفاعلات النووية على الرغم من العقوبات الغربية الكاسحة على موسكو منذ بدأت الحرب في أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.
“الصين وروسيا تسيطران الآن على التجارة النووية العالمية”، تحت هذا العنوان نشرت مجلة فوربس الأمريكية تقريرا يلقي الضوء على التقدم الكبير الذي أحرزته موسكو وبكين على حساب واشنطن في هذا المجال الحيوي للغاية.
ففي أواخر مايو/ أيار الماضي، وقعت أوزبكستان اتفاقية مع روسيا تقضي بأن تقوم الشركة الروسية الحكومية للطاقة الذرية (روساتوم) ببناء محطة للطاقة النووية في أوزبكستان. ستكون هذه أول محطة للطاقة النووية في منطقة آسيا الوسطى، وهو ما سيوفر كهرباء خالية من الانبعاثات الكربونية في دولة متعطشة للطاقة.
لكن النقطة الأهم هنا هي أن هذه المحطة ستمنح موسكو نفوذاً متجدداً في باحتها الخلفية، على الرغم من أن الغرب استغل الحرب في أوكرانيا لمحاولة إخراج دول المنطقة من فلك موسكو. اللافت أيضا أن شركة روساتوم كانت من أوائل الشركات التي أخضعها الغرب للعقوبات الكاسحة.
هذا النجاح الروسي لم يتم ترسيخه بالكامل، إذ رفضت كازاخستان المجاورة المحاولات الروسية في هذا المجال، على الأقل في الوقت الحالي، حيث تدرس أستانا أربعة خيارات للمفاعلات النووية: من الصين وروسيا وكوريا الجنوبية وفرنسا، وسيتم التصويت عليها في استفتاء وطني مقرر إجراؤه الخريف المقبل، بحسب فوربس.
لم يكن هذا التقدم الروسي في المنافسة مع الغرب في مجال الطاقة النووية أمرا محتوما، بل إن هناك من يرى أنه لم يكن ليتحقق إلا من خلال السياسات الأمريكية الانهزامية فيما يتعلق بالطاقة النووية، بحسب تقرير المجلة الأمريكية. فغالبية دول العالم تدرك الآن أن الطاقة النووية باتت ضرورية لمكافحة التغير المناخي، إذ تظل واحدة من أكثر أشكال الطاقة خضرة وأماناً على الرغم من المفاهيم الخاطئة الشائعة. والآن يوفر هذا الجهل فرصة جيوسياسية رئيسية لخصوم أميركا، بحسب فوربس.
تهيمن روسيا على الصناعة النووية في مجالات أكثر من مجرد المفاعلات، كما أنها تمتلك أكبر صناعات تحويل وتخصيب اليورانيوم في العالم، بنسبة 38% و46% من القدرة الدولية، على التوالي، وكان ذلك في عام 2020.
هذه الأرقام تجعل روسيا مصدرا رئيسيا للوقود أيضا، فقد صدرت روسيا ما قيمته أكثر من مليار دولار من المنتجات المتعلقة بالطاقة النووية في الفترة من فبراير/ شباط 2022 حتى هذا العام 2024، وهي الفترة التي شهدت فرض عقوبات غربية غير مسبوقة على موسكو.
وتشمل قائمة الدول التي تقوم روسيا ببناء محطات للطاقة النووية فيها، تركيا وسلوفاكيا، وهما عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وكشفت تقارير غربية أخرى أن “الاضطرابات الجيوسياسية التي ساهمت فيها روسيا في أفريقيا، كان أحد أهدافها محاولة موسكو الحصول على أصول اليورانيوم الفرنسية سابقا”، وهو ما ساعد في إجبار أوروبا على مضاعفة وارداتها من اليورانيوم الروسي في عام 2023.
اللافت أكثر هنا هو أن الولايات المتحدة نفسها ظلت تعتمد على الصادرات النووية الروسية حتى بعد بداية الحرب في أوكرانيا عام 2022، وهي الحرب التي يصفها الغرب بأنها “غزو عدواني غير مبرر” بينما تصفها موسكو بأنها “عملية عسكرية للدفاع عن الأمن القومي الروسي”. فحتى يوم 14 مايو/ أيار 2024، استمرت واشنطن في استيراد منتجات نووية من نفس الكيانات الروسية التي فرض عليها البيت الأبيض عقوبات، بحسب فوربس.
هل انتهى الأمر بالنسبة لأمريكا؟
في الوقت نفسه، لا تزال تمتلك الولايات المتحدة أكبر عدد من محطات الطاقة النووية في العالم، وتعتبر إدارة الرئيس جو بايدن أن ذلك المصدر لتوليد الكهرباء الخالي من الانبعاثات شديد الأهمية لكبح التغير المناخي.
لكن بعد تشغيل محطتين كبيرتين في ولاية جورجيا في عامي 2023 و2024 بتكاليف تخطت الميزانية بمليارات الدولارات وبعد تأخر دام لسنوات، لا توجد أي مفاعلات نووية جديدة قيد الإنشاء.
ستيفن إيزيل، معد تقرير تفوق الصين على أمريكا ب15 عاما، قال لرويترز إنه إذا كانت الولايات المتحدة جادة بشأن الطاقة النووية، فإن عليها وضع استراتيجية وطنية قوية تتضمن المزيد من الاستثمار في البحث والتطوير وتحديد وتسريع التقنيات الواعدة ودعم تنمية القوى العاملة الماهرة، وأضاف “رغم تخلف أمريكا عن الركب، فمن المؤكد أنها تستطيع اللحاق به تقنيا”.
لكن في حال لم تغير واشنطن من استراتيجيتها الحالية، ففي غضون السنوات العشر إلى الخمس عشرة المقبلة، سوف تخرج عشرات المفاعلات النووية الأمريكية من الخدمة مع انتهاء دورات حياتها التشغيلية، ونتيجة لذلك، سوف تجد أمريكا نفسها وقد خسرت ما يقرب من 20% من قدرتها الكهربائية.
الصين تنطلق بسرعة الصاروخ
لكن روسيا ليست المنافس الوحيد الذي بات يتفوق على الولايات المتحدة في مجال الطاقة النووية، فالصين هي الأخرى تنطلق بسرعة الصاروخ في هذا المجال. فقد احتفظت صناعة الطاقة النووية في الصين بتركيزها المحلي، حيث يوجد 23 محطة طاقة قيد الإنشاء في الصين اعتبارًا من يوليو/ تموز العام الماضي.
يرجع ذلك إلى زيادة الطلب على الطاقة بشكل عام، والطاقة النظيفة بشكل خاص، حيث تريد الصين مواصلة تطورها الاقتصادي. في المقابل وبينما تقوم الصين بتحسين عملية إنتاج الطاقة النووية لديها، نجد أن الولايات المتحدة قامت ببناء محطة واحدة للطاقة النووية مؤخرا. وكانت آخر محطة تم بناؤها في الولايات المتحدة قد شهدت تأخيرا في موعد الانتهاء منها بسبع سنوات كاملة وزادت التكلفة بأكثر من 17 مليار دولار عن الميزانية المقررة، وهو دليل على مدى التعقيدات في نظام التصاريح والمراجعة البيئية في أمريكا.
أما الصين فقد اعتمدت على تراكم خبراتها الذاتية وبدأت في توريد المفاعلات النووية إلى الخارج. فقامت الشركة النووية الوطنية الصينية والمجموعة العامة للطاقة النووية الصينية بتطوير مفاعل من الجيل الثالث يسمى “هوالونغ وان”. وبدأ هذا المفاعل الجديد عملياته في عام 2021 في فوتشينغ. وفي عام 2023، بدأت الصين بناء محطة تشاشما-5 للطاقة النووية في باكستان، والتي ستستخدم مفاعلات “هوالونغ وان”. وتساهم مثل هذه الإجراءات في تعزيز قدرة الصين على بناء البنية التحتية في الخارج وتوسيع نفوذها.
تأتي هذه التغيرات الكبرى في مجال الطاقة النووية في توقيت يوصف بأنه مفترق طرق: إذ تدرك القوى العالمية أن الطاقة النووية ستلعب دورًا بارزًا في مكافحة التغير المناخي من جهة وفي إبراز قوتها الاقتصادية وتأثيرها على المسرح الدولي من جهة أخرى.