توسع ترسانتها بشكل متسارع.. إلى أين ستصل الصين في طموحاتها النووية؟
منذ تسعينيات القرن العشرين، رفضت الصين دعوات واشنطن للمشاركة في مفاوضات الحد من الأسلحة النووية. وبدلاً من ذلك، عملت على توسيع وتحديث ترسانتها بشكل سري٬ إذ من المتوقع أن يتضاعف عدد الرؤوس النووية التي تمتلكها بكين والتي تقدر الآن بنحو 500 رأس بحلول عام 2030.
وكان للتقدم الذي أحرزته الصين، إلى جانب تقدم كوريا الشمالية، آثار سلبية على المنطقة كما تقول مجلة foreign affairs الأمريكية. فعلى الرغم من الضمانات الأمنية الأمريكية، فإن غالبية الكوريين الجنوبيين يريدون الآن أن تمتلك بلادهم أسلحة نووية خاصة بها، كما يتآكل نفور اليابان القديم من القنبلة النووية وهناك دعوات لامتلاك هذا السلاح. والآن تسير آسيا على الطريق لرؤية سباق تسلح “مزعزع للاستقرار” في السنوات المقبلة.
إلى أين ستصل الصين في طموحاتها النووية؟
تقول المجلة الأمريكية إن الصين تحت قيادة الرئيس شي جين بينج، تسير على الطريق الصحيح لحشد 1000 رأس نووي بحلول عام 2030، بعدما كانت تملك 200 في عام 2019، وفقا لتقديرات البنتاغون. وقد تسبب هذا الحشد النووي، إلى جانب الاستثمارات الأوسع نطاقا التي تقوم بها الصين في تحديث قواتها المسلحة، في إثارة قلق عميق في واشنطن.
وفي عام 2023، أصرت لجنة الكونجرس المعنية بالموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة على أن التوسع النووي الصيني ينبغي أن يدفع صناع السياسات الأميركيين إلى “إعادة تقييم حجم وتكوين القوة النووية الأميركية”. وفي مارس/آذار، حذر الأدميرال جون أكويلينو، قائد القيادة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من أن “مثل هذا التهديد لم يواجهنا منذ الحرب العالمية الثانية”.
وفي حين تكافح واشنطن مع شدة التهديد وخطر المواجهة النووية، يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن يبذلوا جهداً لفهم الدافع وراء تصرفات الصين بشكل أفضل. وحير المحللون التحول المفاجئ للصين بعيداً عن سياستها التقليدية المتمثلة في الحفاظ على ترسانة نووية صغيرة نسبياً.
يعتقد البعض في واشنطن أن بناء الصين للأسلحة النووية هو رد فعل على التقدم التكنولوجي الأميركي؛ ويشعر آخرون بالقلق من أن بكين ربما تبنت من جانب واحد استراتيجية نووية أكثر عدوانية.
لكن التقييم الدقيق للتفكير المتطور داخل القيادة السياسية الصينية ودوائر السياسة الأمنية يكشف أن المسؤولين الصينيين لا يوسعون ترسانتهم النووية لأغراض عسكرية تقنية فحسب. بل يبدو أن القادة الصينيين تبنوا الاعتقاد بأن الأسلحة النووية تمنحهم نفوذاً جيوسياسياً أكبر لمواجهة التهديدات المتصورة. حيث إن اعتراضات بكين على ما تراه استراتيجية نووية أميركية غير عادلة ومصالح أمنية أميركية غير مشروعة تعزز استعدادها لاستخدام تدابير أحادية الجانب لمعالجة مخاوفها الأمنية.
ويتعين على واشنطن أن تفهم كيف تشكل هذه التصورات السياسة النووية لبكين إذا كانت تريد توجيه العلاقات الأميركية الصينية في اتجاه أكثر حكمة ــ أو تخاطر بالرد على أساس افتراضات خاطئة، مع نتائج عكسية أو حتى كارثية محتملة.
الصين ونظرية “السلام بالقوة”
في نظر بكين، فإن التوترات المتزايدة مع واشنطن هي نتيجة لتحول توازن القوى بين الصين والولايات المتحدة٬ ونتيجة للتنمية الاقتصادية السريعة في الصين وليس أي تغيير في سلوكها.
وتشعر واشنطن بالتهديد من صعود الصين وأنها أصبحت معادية بشكل متزايد. وفي ظل هذه الظروف، يجب على بكين إقناع واشنطن بقبول صعود الصين كلاعب رئيسي وإقناع صناع السياسات في الولايات المتحدة بأنهم لن يتمكنوا من احتواء أو تعطيل أو زعزعة استقرار الصين. وفقاً للنخب الحاكمة في الصين، لا يمكن لبكين أن تفعل ذلك إلا من خلال تعزيز قوتها النووية.
وقد أدى هذا المنطق إلى دفع الصين إلى إدراك التهديد المتزايد من جانب الولايات المتحدة مع تضييق الفجوة في القوة بين البلدين. وباعتباره من أشد المؤيدين لفكرة أن الولايات المتحدة معادية لصعود الصين، يولي الرئيس شي أهمية جيوسياسية كبيرة للأسلحة النووية كوسيلة لاستعراض القوة الصينية. وقد مارس أسلافه، المتأثرون بفلسفة الصين النووية المتواضعة تقليديا ومع الموارد الأكثر محدودية المتاحة لهم، قدرا كبيرا من ضبط النفس في تطوير القدرات النووية للصين وأعطوا الأولوية للتحسينات النوعية على التوسع الكمي. ومن ناحية أخرى، رفع شي القوة الصاروخية إلى مرتبة الخدمة العسكرية الكاملة، وأصدر تعليمات محددة لتسريع التحديث النووي، وعزز كل من تعقيد وحجم الترسانة النووية الصينية.
إن التزام شي بالأسلحة النووية يعكس اختلافاً عميقاً في كيفية إدراكه لهذه الأسلحة مقارنة بنظرائه الأميركيين. فبدلاً من السعي إلى تحقيق أهداف عسكرية محددة بوضوح، مثل ردع العدو عن القيام بأنشطة عسكرية محددة، تنظر بكين إلى الأسلحة النووية باعتبارها رموزاً للقوة العسكرية وتعتقد أنها تمارس تأثيراً خاصاً على تصور الخصم لتوازن القوى. ويدعم هذا المفهوم ما يطلق عليه المسؤولون الصينيون مهمة “موازنة القوة الاستراتيجية” لقواتهم النووية ــ وهي محاولة لإجبار الولايات المتحدة على اتخاذ موقف أكثر استيعاباً تجاه الصين.
ويولي شي أهمية جيوسياسية كبيرة للأسلحة النووية كوسيلة لإظهار القوة الصينية. لقد آمن الرئيس شي منذ فترة طويلة بمزايا التوازن الاستراتيجي من خلال الأسلحة النووية. فبعد وقت قصير من توليه السلطة في عام 2012، فهم بأن روسيا اتخذت القرار الصحيح بإعطاء الأولوية لتطوير قدراتها النووية حتى مع تدهور اقتصاد البلاد. وكانت خطوة موسكو متوافقة مع وجهة نظر شي بأن قوة الترسانة النووية لأي دولة تشكل النهج العام للعدو تجاه العلاقات الثنائية.
لكن نهاية المطاف، لم تردع القوة النووية الهائلة التي امتلكتها موسكو أثناء الحرب الباردة واشنطن عن السعي إلى تقويض الاتحاد السوفييتي من خلال التخريب الاقتصادي والحرب السياسية. ومع ذلك، فإن هيكل السلطة المحلي شديد المركزية الذي أسسه شي منع أي تقييم جدي لافتراضاته٬ مما أدى بدلاً من ذلك إلى التنفيذ السريع وغير المشروط لرؤيته للصين كقوة نووية أكثر قوة.
هل يمكن أن تبني واشنطن وبكين حواراً جاداً حول قوتهما النووية؟
الآن٬ تتمثل العقبة الرئيسية أمام الحوار النووي بين بكين وواشنطن٬ في تشكك الصين المتزايد في قدرة التدابير الأمنية التعاونية على حمايتها من التهديد الوجودي الذي تعتقد أنه قادم من الولايات المتحدة. على سبيل المثال، أكد شي على أهمية “الحفاظ على المبادرة الاستراتيجية لحماية الأمن الوطني بقوة في أيدينا”. إن هذا انعدام الثقة يدفع بكين إلى تحقيق توازن أكثر ملاءمة للقوى ويقلل من اهتمامها بضبط النفس النووي، ناهيك عن محادثات ضبط الأسلحة.
وتشاؤم بكين ينبع جزئياً من المعايير المزدوجة التي تنتهجها الولايات المتحدة في المجال النووي. ويشير الخبراء الصينيون إلى حقيقة مفادها أن الحكومة الأميركية لا تقبل أن الصين لها الحق في تبني نفس الاستراتيجيات النووية التي تستخدمها الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تتمسك واشنطن بخيار الاستخدام الأول للأسلحة النووية، ولكنها تثير مخاوف بشأن احتمال انحراف الصين عن تعهدها غير المشروط بعدم استخدام الأسلحة النووية أولاً ــ وهو الالتزام الذي تقول الصين إنها لن تنتهكه.
ويحاول صناع القرار في الولايات المتحدة تبرير هذه المعايير المزدوجة بالتلميح إلى أن الأهداف الأمنية الأميركية أكثر مشروعية من الأهداف الصينية. وهم يعتبرون أن هدف الولايات المتحدة المتمثل في الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك مضيق تايوان وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، يتماشى مع القوانين والأعراف الدولية، ويقارنون أهدافهم الإقليمية بالجهود الصينية لتغيير الوضع الإقليمي الراهن من خلال الوسائل القسرية. وعلى هذا فإن صناع القرار في الولايات المتحدة يرون أنه من المنطقي والضروري استراتيجياً الحفاظ على مجموعة واسعة من الخيارات النووية للولايات المتحدة وحلفائها.
وتعتقد الصين أنها قادرة على إجبار واشنطن على تجاهل الاختلافات الجوهرية بينهما. ولكن بكين تعزو هذه المعايير المزدوجة إلى ما يصفه المسؤولون الصينيون بالغطرسة المهيمنة للولايات المتحدة. وعلى وجه الخصوص، ترى الصين أن مطالبة الولايات المتحدة بالحق في الدفاع عن تايوان، وهي المنطقة التي حددتها بكين باعتبارها “جوهر مصالحها الأساسية”، غير شرعية، وخاصة عندما تضعها واشنطن في إطار احتياجاتها الأمنية الخاصة.
وكثيراً ما يسلط الاستراتيجيون الأميركيون الضوء على أهمية تايوان ويزعمون أن إبقاء تايوان منفصلة عن الصين أمر بالغ الأهمية لمصالح الأمن القومي الأميركي، والتي تشمل الحفاظ على توازن عسكري موات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، والحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة العالمية، وتعزيز المنافسة الجيوسياسية مع الصين. وتعطي هذه الأهداف المعلنة مصداقية أكبر لقلق بكين من أن المكاسب الجيوسياسية الأميركية سوف تأتي على حساب سلامة أراضي الصين. كما تعمل على تآكل الأساس الأخلاقي للمعارضة الأميركية للأجندة العسكرية الصينية وتعزز قناعة بكين بأنها لابد أن تتحدى ما تعتبره هيمنة أميركية.
وتعتقد الصين أنها قادرة على تصحيح هذا الخلل غير العادل من خلال استعراض قوتها بشكل أكثر طموحا، بما في ذلك توسيع ترسانتها النووية.
إلى أين سيصل التوسع النووي الصيني؟
تقول المجلة الأمريكية إن أغلب المحللين وصناع السياسات الأجانب يفشلون في تقدير مدى تأثر التوسع النووي الصيني بمنطق سياسي غامض، ويفسرونه بدلاً من ذلك على أنه مدفوع باستراتيجية عسكرية هجومية. وبالاستعانة بأسوأ سيناريوهات الحرب النووية، بما في ذلك ضربة نووية وقائية منسقة محتملة من قبل الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة، يزعم العديد من الخبراء أن الولايات المتحدة لابد وأن تبني قواتها ودفاعاتها النووية. ويتجاهل هؤلاء الخبراء، الذين يهدفون إلى تعزيز الردع الأميركي لأسباب مختلفة٬ إمكانية أن تؤدي حججهم في الواقع إلى تقويض الأمن الأميركي من خلال إعطاء مصداقية أكبر للرأي المتشدد في بكين بأن واشنطن تبالغ عمداً في تقدير التهديد الذي تشكله الصين لتبرير سعيها إلى التفوق النووي المطلق.
إن الوضع يزداد سوءاً بسبب الهوة المتنامية بين المجتمعين الصيني والأميركي. والفجوة المتزايدة الاتساع في وجهات النظر العالمية والتصورات السياسية بين الصين والغرب، والتي تيسرها إلى حد كبير سيطرة الصين على المعلومات والرأي العام، تشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق التفاهم المتبادل والثقة.
ونتيجة لهذا فإن الجانبين لا يثقان كثيراً في أن النهج التعاوني من شأنه أن يضمن الأمن في المستقبل. وتأمل بكين أن تتمكن من تجنب هذه القضية بمساعدة مخزون نووي أكبر. وبمساعدة ترسانتها الموسعة، تعتقد الصين أنها قادرة على إرغام واشنطن على التغاضي عن الاختلافات الجوهرية بينهما، بما في ذلك تصعيد النزاعات حول الحقائق والمعايير والقيم، وإجبار الولايات المتحدة ببساطة على قبول الصين كما هي، واحترام المصالح الأساسية للصين كما حددتها بكين. ولكن إذا استمرت الصين على هذا المسار، فإنها سوف تنتهي إلى تنافس نووي مكثف مع الولايات المتحدة.
ولكن في ضوء إحجام الصين المستمر عن الدخول في مناقشات ذات مغزى بشأن القضايا النووية والأمنية الأوسع نطاقا، فليس هناك ما يضمن ترحيب بكين على الفور باقتراح الولايات المتحدة بإجراء محادثات. وحتى لو بدأ الحوار ــ ربما بدافع من النداء والضغوط الدولية ــ فسوف يظل الأمر يتطلب دبلوماسية ماهرة لتوجيه الطرفين عبر محادثات من المرجح أن تكون صعبة.
ومع ذلك، فإن النهج القائم على الحوار الذي يهدف إلى فهم أفضل لوجهات نظر كل طرف بشأن ما يشكل مصالح أمنية مشروعة ونهجا مشروعة من شأنه أن يعالج المخاوف الأساسية لبكين ويقدم احتمالات استقرار العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والصين. ومن خلال إعطاء الأولوية لهذه المناقشة، تستطيع واشنطن أن تثبت حسن نيتها ــ وتساعد بكين على إدراك أن التدابير التعاونية فقط هي القادرة على تخفيف سياسة الردع الأميركية٬ كما تقول مجلة “فورين أفيرز”.